The Lebanese Flag

 

CENTER FOR DEMOCRACY IN LEBANON


 


 







العدل الإلهي والعدالة الإنسانية

شبلي ملاّط
 

"النهار" - الخميس 15 كانون الاول 2005
 

***

الى جبران تويني،

فكنت إذا أصابتني سهامٌ

تكسرت النِّصال على النِّصال

وهكذا يلتقي أبو الطيب وجبران تويني وأهله، وأهلنا. هكذا الأسطورة الإغريقية الفظيعة، هل كانت تدري ناديا في ملحمتها عن نكبة حزيران والدهريات Juin et les Mécréantes أن أولادها الثلاثة سوف يخطون بروحهم الأسطورة اللبنانية، والأسطورة العربية، جزءاً أساساً من ملحمة التاريخ العالمية؟

مع ناديا تويني أول من أمس في كنف الحزن، السؤال كان: هل هنالك من رب؟  سامحني أيَّ شك، سبحانك تعالى يا الله.

فالله العدل، والعدل منذ شرعة حمورابي ما تصبو اليه الإنسانية نهايةً لتاريخها. هنا امتزاج تضحية الإنسان بالعدل الإلهي، ونهاية التاريخ مع لقاء العدل الإنساني بالعدل الإلهي، بتلك الوتيرة البطيئة التي لا بُدّ من استعجالها على روح جبران، لننهي تاريخ حروبنا العبثية مع بعضنا، وحروب الآخرين في بلادنا.

***   

يشكّل تقرير ميليس منعطفاً تاريخياً بالنسبة لكل من سوريا ولبنان. سنترك الجزء المتعلق بسوريا لتعليق لاحق. أما لجهة الشق اللبناني فبات المسار الأفضل للعدالة المرجوة واضحاً.

كانت مسألة المحكمة () خلافية في لبنان، لكن وبعد مقاومة قاسية الأسبوع الماضي من وزراء "حزب الله" و"أمل"، تمّت إعادة قراءة المواقف بحكمة من قبل القيادات، من ناحية لأن القرار في يد مجلس الأمن وليس في يد الحكومة اللبنانية، ومن ناحية تماشياً مع الفكرة التي أصررنا عليها، الأربعاء الماضي في مقابلة استضافنا فيها الأستاذ علي حماده مع النائب حسين الحاج حسن من "حزب الله"، والفكرة مفادها أن لبنان يمكن أن يستفيد من هذه السابقة لتفعيل دولي لقضية اختفاء الإمام موسى الصدر في ليبيا عام 1978، وهي المأساة الوطنية التي لا نزال نتخبّط فيها منذ أكثر من ربع قرن . وقد اقترح اخيراً زعيم "حزب الله" السيد حسن نصرالله النظر في تحقيق دولي بشأن خطف موسى الصدر، القائد اللبناني التاريخي، مع رفيقيه عباس بدر الدين ومحمد يعقوب، بعد أن أصدر في آب 2004 المدعي العام اتهاماً بحقّ معمّر القذافي و17 شريكاً له، وهو الإتهام الذي يراوح مكانه إذا لم يتمّ تفعيله في الفضاء القضائي الدولي.

هنالك أيضاً مقاومة لإنشاء المحكمة على الجبهة الدولية. لا تتحمس الأمم المتحدة بسهولة لإنشاء محكمة جديدة خاصة، كما أن حكومة الولايات المتحدة الأميركية لا تحبّذ عموماً العدالة الدولية. وفي مباحثات لدى الأمم المتحدة، وفي اجتماع لنقابة المحامين الأميركية خلال الأسابيع المنصرمة، كان لدفاعي عن إنشاء محكمة راسخة دولياً–  بمعنى أن مصدر شرعيتها مجلس الأمن، كما هي الحال اليوم بالنسبة للتحقيق- بعض الأثر في تذليل هذه المقاومة، في عمل هو نزر يسير مواكبةً للزخم الهائل المرتبط بتبني الأكثرية اللبنانية المتضامنة مع سعد الحريري ووليد جنبلاط هذا الموقف. وكان رئيس حكومتنا القدير فؤاد السنيورة اقترح خلال اجتماعنا الأسبوع الفائت أن تقدّماً ديبلوماسياً قد أحرز في هذا المجال.

ينبغي وضع هذه المسألة في أعلى سلّم الأولويات ، وبشكل أساسي بلغة العدالة كما وضعها البطريرك الماروني: "إذا كانت المحكمة اللبنانية بمقدورها أن تقوم بما يجب من العدالة في حق الفاعلين فليكن، وإلا فيكون ساعتئذ المحكمة الدولية هي التي يجب أن تتولى الأمر"، ("النهار" في 4/12/2005). وهذا أيضاً هو موقف القانون الدولي ، ويظهر في نظام المحكمة الجنائية الدولية تحت مبدأ التكامل أو الإستدراك complementarity, subsidiarity .

فقصور النظام القضائي اللبناني أمام مثل هذا التحدي حقيقة جليّة للعيان. ولكل من يعرف حالة الاضطراب التي يعاني منها قضاتنا، وهو الإضطراب المفطور على حلقة قانونية فارغة أملته على لبنان خمس عشرة سنة من الحرب الأهلية، تبعتها خمس عشرة سنة من التدخل السوري في شؤون القضاء قاطبةً.

فالقضاة اللبنانيون غير قادرين على تحمّل الضغط الناشئ عن توقيف القادة الأمنيين الأربعة، ولم يتمّ حتى اليوم أي تحرّك بشأن محاكمتهم، كما يمكن تصوّر الخوف الذي تولّده ضرورة إصدار مذكرات التوقيف بحقّ مسؤولين سوريين. وفي مقابل ذلك، فمن الواضح أن طلب الحكومة السورية استجواب الشهود الخمسة في فيينا بدلاً من بيروت أمرٌ محقّ، لما يعتري مجيئهم الى لبنان من خطر عليهم وعلى ميزان العدالة بحقّهم في حالة التشنج السائدة بين البلدين.

وعلى سبيل المقارنة، لدينا الحالة المؤسفة للمحكمة الخاصة العراقية في العراق، والمقتل المأسوي لمحاميين وكيلين عن صدام حسين. وبات واضحاً أنه لا يمكن تحقيق العدالة في محكمة بهذه الأهمية لمستقبل الشرق الأوسط، إلاّ إذا نقلت الى خارج العراق وشملت قضاة ومدعين عامين دوليين. إن الأوان لم يفت بعد. وقد أكّدنا مع منظمات قيادية لحقوق الإنسان عالمياً، أن قانون المحكمة الخاصة العراقية يترك المجال مفتوحاً لاستدراك يحصّن عدالتها، فقد نصّت قوانينها على ضم قضاة مستشارين غير عراقيين، وينبغي على العراقيين وعلى المجتمع الدولي العمل في هذا الإتجاه لحماية سير العدالة فيها بشكل أفضل. وما أدركناه من تجربة العراق ينطبق حتماً على الحالة اللبنانية.

الامر الاهم لتحقيق العدالة هو مطالب الضحيّة. وكما أشار التقرير الأخير لموفد الأمم المتحدة تيري رود لارسن، بدأ مسلسل الاغتيالات بعد فترة قصيرة من طلب الرئيس اللبناني إميل لحود من السلطات السورية ممارسة الضغط لتمديد ولايته في نسقٍٍ Pattern متَّصل (الفقرة 52 من التقرير). فالتمديد المفروض سورياً كان في مطلع أيلول 2004. وفي الأول من تشرين الأول 2004 أصيب الوزير مروان حمادة، وهو المعارض البارز لتحوير الدستور قسرياً، كما قتل معاونه غازي بو كروم. واستمرّ المسلسل الإجرامي مع رفيق الحريري واثني عشر تفجيراً آخر مماثلاً، قتل في المحصلة 31 شخصاً من بينهم ثلاثة مواطنين هنود، وأصيب العشرات من الأشخاص إصابات بالغة، حتى ذاك الصباح المشؤوم الإثنين الماضي في فاجعة جبران تويني ورفيقيه.

ولكي تتحقق العدالة، لا بدّ من شملها هؤلاء الأشخاص في المحكمة التي ستنظر في قضية الحريري. لقد التقيت العديد من الضحايا وعوائلهم خلال الأيام الماضية، وجميعهم مصرون على إنشاء محكمة دولية كما هي الحال بالنسبة لعائلات الحريري والضحايا الـ22 الذين قضوا في تفجير 14 شباط، كما شجعتهم على الذهاب الى الأمم المتحدة، ليطلبوا رسمياً عناية الأمين العام وأعضاء مجلس الأمن بقضيتهم على غرار الطرح الذي اتخذته الآن رسمياً الحكومة اللبنانية.

من الناحية القانونية الصرف، يستطيع مجلس الأمن إنشاء محكمة دولية بمعزل عن هوية من يطلبها، والمثال على ذلك محاكم يوغوسلافيا ورواندا التي أنشئت بالرغم من معارضة بعض أو كل أعضاء الحكومتين الصربية والرواندية. المهم هو أن يستجيب مجلس الأمن لمطالب الضحايا إنشاء المحاكمة الدولية الشاملة لقضاياهم، وقد بات واضحاً من استنتاجات تقارير فيتزجيرالد وميليس أن العناصر الجرمية لم  تقتصر فقط على الأراضي اللبنانية تحضيراً وتنفيذاً وتغطيةً وعرقلةً.

لا يمكن بأي حال تحقيق العدالة إذا لم تكن المحكمة راسخة دولياً من ناحية، ومن ناحية أخرى إذا تمّ استبعاد أيّ من الضحايا. فالضحية أولى بضرورة معاقبة المجرمين جزائياً، سواءً لجهة القصاص الجسدي من توقيف وسجن، أو لجهة التعويض المالي. تبقى حجة أخيرة لإزالة كل تردّد: مع محاولة اغتيال أحد قادة "حزب الله" في بعلبك الأسبوع الماضي، يبقى لبنان مكشوفاً على مسار الاغتيالات السياسية المستمرّة، وقد قسا عليه الدهر مجدداً صباح الإثنين مما يجعل ملحاً لجميع عمليات الاغتيال التي حصلت منذ الأول من تشرين الأول 2004 أن تخضع لصلاحية المحكمة الدولية التي ينشئها قرار مجلس الأمن تبعاً لتقرير ميليس الثاني.

والسابقة موجودة قانونياً، فهكذا تماماً أنشئت في العام 1993 أول محكمة خاصة دولية ليوغوسلافيا السابقة. ولا بدّ للمحكمة الدولية التي تنشأ لإسعاف لبنان أن تساهم في الحدّ من موجة الاغتيالات السياسية بتذكيرها جميع المتواطئين، أمراً وأداةً، أن جميع الأعمال العنيفة المقبلة تكون حكماً وعفواً من صلاحيتها، وعلى الأقل لتعطي ذوي الضحايا أملاً بأن قاتلي أحبابهم، عرضة للعقاب عاجلاً أم آجلاً، كما هي الحال اليوم بالنسبة للمجرم الكرواتي الذي لحقت به العدالة بعد عقد ونيّف.




Copyright © 2005 by Center for Democracy in Lebanon™.
The content throughout this Web site that originates with CDL
can be freely copied and used as long as you make no substantive
changes and clearly give us credit. Details.
Legal Statement
For problems or questions regarding this Web site contact Webmaster.
Last updated: 05/19/11.